وكذلك كان بالكعبةِ في عمرة القضاء وحولَها ماحولها ممَّا ذكرنا، والغالب أنَّه صلَّى عندَ المقام ـ وكان مُلصقاً بالبيتِ ـ ركعتي الطَّواف، فقد أقام هنالك ثلاثةَ أيام، يُصلِّي كلَّ يوم وليلة بأصحابه الصَّلوَات الخمس عندها، ثمَّ ترحَّلَ عنها، وتركها كذلك، حتَّى كان عامُ الفتح، وتمكَّنَ من إزالةِ ذلك، لمْ يدخلِ البيتَ حتَّى أُلقِيَت الصُّورُ المجسَّدةُ من هنالك، ومُحِيت الصُّورُ الممثَّلةُ من داخلِهِ وخارجِهِ، ورجع الحقُّ إلَى نصابه، وعاد شارد الدِّين بعد ذهابه، ودخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيت، وصلَّى داخل الكعبة ركعتين، كما سنذكره في استقبال القِبلة، إن شاء الله تعالَى. وهاهنا تنبيهٌ جيِّدٌ قويٌّ:
وهو أنَّهُ لمَّا كان أصلُ وضع الكعبة علَى اسم الله وحدَه لا شريكَ له، كما قالَ تعالَى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) وكذلك بيت المقدس وُضعَ بعده بأربعين سنةً، كما في الصَّحيحين عن أبي ذرٍّ مرفوعا"، إلى أن قال ابن كثير رحمه الله: "والمقصودُ أنَّ كلَّ معبدٍ وُضعَ أوَّلاً علَى التَّوحيدِ فالصَّلاةُ فيهِ مشروعةٌ، ولا يضرُّ ما كان فيهِ من الأشياءِ المكروهة المنهيِّ عنها؛ لأنَّ المؤمنَ لا يلتفت إليها، وإنَّما قصدُهُ الصَّلاةُ في هذه البقعةِ المشروع الصَّلاة فيها بالأصل.
فأما ما وُضعَ أوَّلاً علَى الشِّرك كالكنائسِ، والمعابد المتَّخذة أوَّلاً لغير مقصدٍ شرعيٍّ، فهذه لا يُصلَّى فيها، ولا يُقامُ فيها، كما قالَ تعالَى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) الآية أهـ كلام ابن كثير.
وبهذا يعلم أنه لا أثر لإدخال حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد، وفي الحجرة قبره صلى الله عليه وسلم، لا أثر لذلك على فضيلة مسجده صلى الله عليه وسلم، ففضله بعد إدخال الحجرة فيه كفضله في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، قبل إدخال الحجرة، فلم تزل الصلاة فيه ـ ولا تزال ـ بألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام.
وبذا يبطل احتجاج بعض القبوريين على صحة الصلاة في مساجدهم بوجود الحجرة التي فيها القبر الشريف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، زاعمين أن هذا يقتضي أن يكون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، والعلماء يقولون: إن إحاطة المسجد بالحجرة لا يلزم منه أن تكون البقعة التي فيها القبر من المسجد، ولو فرض أن البقعة صارت من المسجد، وصار القبر في المسجد، فهذا لا أثر له في حكم الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مؤسَّس على التقوى، فلا يضره ما أحدث فيه، حتى ولو اعتدى ظالم فدفن في مسجده صلى الله عليه وسلم ميتا، فذلك لا يمنع من الصلاة فيه، ولا يقدح في فضيلته ،كما تقدم بيانه، ووجهه ظاهرٌ، كما في النقل عن الإمام ابن كثير، والله أعلم.
|